إشكالیة الحداثة فی القصیدة العربیة الحدیثة

إشكالیة الحداثة فی القصیدة العربیة الحدیثة

" كما أن الخیال یُجسِّم صور الأشیاء الغیر معروفة، فإن یراع الشاعر یُحیلها إلى أشكال ویمنح، الأشیاء الشفیفة حیزا محدودا ویجعل لها اسما " ـ شكسبیر ـ

لكل عصر همومه، ومشاكله وقضایاه، والإنسان مُطالَبٌ فی كل عصر بأن یواجه الحیاة بما یلائمها من سلوك، ومن خلال هذه المواجهة تتجذّر قیم العصر وتتبلور مُثُلُـه؛ والمواجهة هنا مُعاصَرة الحیاة من ناحیة، ومواجهتها بعلاقات، وسلوكات فردیة وجماعیة تتجدد باستمرار فی نسقها.

والتجدید من سنن الكون، والإنسان معنی دائما بالتجدید والتحدیث والعصرنة لما تنطوی علیه هذه العناصر من تقدم، وتطور تسمح بتحقیق مستوى أفضل من العیش. والتقدم مجالاته عدیدة، وغیر مقتصرة على الجانب المادی وحسب؛ إنما یطال المجالَ الروحیَّ والنفسیَّ للإنسان، وإحداث التوازن بین المجالین المادی والروحی، وإذ یستهدف أیضا الارتفاع بمستوى العقل الإنسانی والمعرفة الإنسانیة، لِـمَا تهدف إلیه من تحقیق ذاتیة الإنسان، وإبراز مواهبه، واحتضانها، وتوظیفها لخیر الإنسانیة، وتفجیر طاقاته الكامنة مما ینتج عنه فرصُ الإبداع والابتكار،واتساع المجالات التی یتجلى فیها ذلك الإبداع وخصوصا فی میادین الإبداع الأدبی والفنی.

إن المقصود بالإبداع هنا..الإبداع البَنَّاء الذی یستند إلى جذور الأمة،ورقیها وتطلعاتها المعاصرة، فالتلازم ضروری بین الأصالة والحداثة..وهذا التلازم لا یتحقق إلا بفعل الإبداع،لأن الإبداع هو ماهیة الفن،والفن شكلٌ ومضمونٌ، فالشكل هو صیغة التعبیر، والمضمون هو الموقف. وما تعبیر الحداثة فی الأدب والفن إلا مرادف لتعبیر الإبداع.والدعوة إلى الأصالة فقط تؤدی إلى تقلید التراث، وتكراره وفی ذلك جمود الفن وزواله، والدعوة إلى المضمون فقط یؤدی إلى إخراج العمل الفنی عن معناه.لكی یصبح بوق دعایة لاتجاهٍ فكری، أو سیاسی أو عقائدی
الإبداع الأصیل

ما دمنا سنقتصر فی هذا المقال على العملیة الإبداعیة فی الأدب وما یعْتوِرُها من دعوات حداثویة لكی تسایر عصرها هذا، فإن العملیة الإبداعیة النظیفة، والصادقة فی الأدب هی عبارةٌ عن تشكیل جدید للعالم وللحیاة،وفق منظور المبدع، ونوازعه، ورؤاه الخاصة.

ومن العبث أن تتحول تلك العملیة إلى تصورات تحمل فی طیاتها بواعث الهدم،ونوازع الشر فی النفس البشریة، ویتحول العمل الإبداعی إلى مِعْول یهدم القیم الإنسانیة، والأخلاق الاجتماعیة، وتفكیك عُرى الروابط، والضوابط التی تحكم الحیاة؛ فالأدیب المبدع یُشْترَطُ فیه أن یكون خیّراً ذا عاطفة رقیقة،محبا للإنسانیة،مدركا لضعفها البشری، ذا نفس تفیض حبا وحنانا، متذوقة للجمال، وقادرة على إشعاعه لدى الآخرین؛ ومنْ فقد هذه الممیزات، لا یستحق أن یكون فی صف المبدعین. وانطلاقا من هذه الخصائص، یمكن القول بأن العملیة الإبداعیة،هی تلك الحالة المركبة من إحساس،ومشاعر وانفعالات، وعملیات عقلیة ونفسیة معقدة،یعیشها المبدع ویعاینها،فتفرض علیه اختیارات معینة تظهر فی أثَرٍ إبداعی معین.
الفنان المبدع

وقد یقترب هذا الرأی من قول المرحوم المفكّر اللبنانی الدكتور "حسین مروة " فی وجوب توفیر خصائص معینة فی الفنان المبدع:

« الفنان المبدع لا بد أن نلاحظ فی إبداعه النزعةَ الجمالیةَ، الأداة الجمالیة، التعبیر والصیاغة، ثم الأداة المعرفیة التی تطور أداة التعبیر والصیاغة، ثم النبع العاطفی والوجدانی الذی یصدر عنه الأدب الإبداعی،هذا شیء أساسی فی الفن.. فی الفن المكتوب، والمسموع، أو المقروء، أو المرسوم.
الإبداع من خصائصه الإدْهاش

وعلى هذا فالإبداع فی الأدب لابدّ أن یتضمن التجدید، فالإبداع من خصائصه الإدهاش، والمفاجأة.. أن یحمل الغیرَ المتوقعَ.. الشیء الجدید الذی یفتح العین، ویدع المتلقی یعید النظر فیما یقرأ.. الإبداع یفتح عین المتلقی.. یدهشه.. یذهله..یحلق به إلى عوالم أخرى..عوالم فسیحة..

التجدید فی الأدب معناه ابتكار ما هو غیر مألوف.. إدهاش الغیر بالتجدید البنّاء الذی یهزّ النفس، ویغذی الروح. ومن أجل ذلك فإن ظاهرة التجدید، والتحدیث فی المجال الفنی والإبداعی دائما تتجلى أولا فی أعمال الأدباء، وتطال ظاهرة التجدید كل الفنون التی یبدعها الإنسان،إلا أنها تبرز أكثر فی الشعر – لكونه فنا یأتی فی مقدمة هذه الفنون، ولیس فی الفن تقلیدٌ، فالفن جدید ومتجددٌ دوما،لأن الفن لیس علما بالدرجة الأولى، ولكونه موهبة یستمد منها العلمُ نظریاته.

فالأشكال الفنیة،والأسالیب المتبعة تعبیریا،لا یمكن أن تخضع للقواعد والمناهج النظریة، وإنما تنبع من ذات الفنان فتعبر عن شخصیته، فكم من أعمال فنیة رائعة عاشت آلاف الأعوام،فی حین ماتت أعمال أخرى یوم رأت النور مباشرة. والعمل الفنی لا یعیش إذا لم تكن له شخصیة تمیزه عن الأشكال الفنیة الأخرى، وإنْ تقارب معها فی النسق واللون..
عندما یكون الشعر موقفا..!!

إن الشعر حالةٌ وجدانیةٌ فكریةٌ، یتركز فیها الذهن على نقطة معینة من صورة.. من فكرة..من قضیة والشعر تعبیر عن العاطفة، وما یثیر فی النفس من دقائق الشعور وما یؤثر فیها من صور الجمال، وحقائق الحیاة؛ وهو من أجل ذلك یتأثر بالعصر، وبالبیئة، وبظروف الحیاة التی تتطور باستمرار. فالضرورة تستلزم أن یرافق تطورَ الحیاة تطورٌ مماثلٌ فی الفنون، وخصوصا فی الفن الشعری لكونه یأتی فی مقدمة هذه الفنون كما سبق. والتجدید فی الشعر، والافتتان فی إبداعه شكلا ومضمونا یقتضی التحدث عن إشكالیة " الحداثة " التی تُُعتبر هاجسا طبیعیا فی الأدب والفن. معْنى الحداثة فی الإبداع الأدبی

مصطلح الحداثة وافدٌ علینا فی العالم العربی كأغلب الاتجاهات الفنیة المعروفة، ویعنی المصطلح لدى البعض من المبدعین الأدباء،الدخول فی تجاربَ تتعلق بالبناء الشكلی للقصیدة وخصوصا،اللغة وهذا بالطبع على حساب المضمون الكیانی للقصیدة،لكوْن القصیدة فی رأی هذا البعض،تنتمی إلى تجربة، ولا تنتمی إلى شرح أو تحلیل.

المرحوم الدكتور إحسان عباس لا یوافق على هذا الرأی، إذْ یرى بأن عالم الفن والإبداع أكبرُ وأسمى من أن یتحول إلى مختبر للتجارب، فعالم الفن غایته الوصول إلى نَتاجٍ فنی إنسانی راقٍ،إذ هو أشبه ببناء لشیء جدید من أشیاء أخرى،إنما انطلاقا من یقین مسبق بأن هذا البناء سیُفْضی بالتأكید فی النهایة إلى تحفة فنیة رائعة،عكس العالم فی مختبره،بین یدیه مواد مختلفة یجعلها مادة لتجاربه المتكررة دون یقین مسبق بالوصول إلى نتیجة معروفة،أو شیء جدید معلوم بالتأكید منذ البدایة.

والأدیبة المعروفة " غادة السمان " تؤكد على أن لكل فنان كل الحقوق بما فیها حق التجربة، وحق المعاصرة،وصولا إلى حق الرداءة.لكنها تقنِّـن هذا الحق، وتضع له قیودا حتى لا یتحول إلى تعسف، والتعسف كما هو معروف فی استعمال الحق المضر بالغیر،یعتبر جُـرْما.

ولطالما أن الأدباء.. یختلفون فی أحقیة التمتع بهذا الحق التجریبی، وهم یبدعون فلنبق مع مصطلح الحداثة فی مضمونه الشعری، حیث هو مغامرة عفویة تفیض بالحدس والكشف عن إدراك خاص للعالم إدراكا یهدم نظام التصورات المألوفة لیعید توزیعها، وبناءها من جدید.. فالحداثة تنزِع الأشیاء المألوفة من كیانها المعتاد، وتعمل على بنائها من جدید فی سیاق آخر مدهش وغیر متوقع، قد یدهش المتلقی ویثیره من خلال تفجیر أقصى طاقة إیحائیة وانفعالیة لدیه، بحیث یدرك معنى إعادة ترتیب التجربة الإنسانیة، وإعادة تكوینها وتفسیرها من جدید.

فلا ضیْر ألا یرى البعض من النقاد والأدباء فرقا بین العملیة الإبداعیة وممارسة الحداثة فی العمل الفنی والأدبی لكونهما مغامرة عفویة تفیض بالحدس، والكشف عن عوامل أخرى. یعید الفنان المبدع إعادة صیاغتها فی تجربة إنسانیة مدهشة تفجر طاقات إیحائیة وانفعالیة لدى المتلقی،فالحداثة تعنی حضور التوهج الشعری، ونحن نتكلم عن الشعر
ضرورة التجــدید

إن الوزن والقافیة فی القصیدة العربیة العمودیة عملٌ تنظیریٌ تَوصّل إلیه الخلیل بن أحمد،لأن الشعر العربی كان سباقا على هذا التنظیر بمئات السنین، فالأوزان، والقوافی المعروفة لدینا الیوم لا تعدم توصّل العرب قبل الخلیل بن أحمد إلى أوزان أخرى.. هذه الأوزان لدینا الیوم، لا تستنفد إمكانات الإیقاع، وإمكانات التشكیل الموسیقی الذی قد یظهر لاحقا فی اللغة العربیة، وإنما ما هو معرف لدینا یُمثل ما استخدم، واستقر فی التراث الأدبی، وما عُـرف فی الثقافة العربیة المعاصرة.

ویؤكد هذا الرأی وإن كان فی سیاق آخر الشاعر العراقی شفیق الكمالی الذی یرى:

« أن الشعر العربی الذی وصلنا إلى أیام الخلیل بن أحمد لیس كل الشعر العربی الذی قیل، فالكثیر من هذا الشعر ضاع،ویجوز أن یكون بین هذا الذی ضاع أعداد كبیرة من هذه القصائد التی تُعتبر ُغیر موزونة.وهذه امتداداتها موجودة الآن فی شعر البادیة. وإذا كان الشعر هو الانتماء للعفویة والبراءة المطلقة والطیران فی فضاءات الحریة وولوج الزمن، وإعادة تشكیل الحیاة المألوفة فی عالم آخر سحری،ألیس من حق الشاعر أن یرفض اتجاها یقال: إنه صالح لكل زمان ومكان؟ »
بناء القصیدة الجدیدة

وعلیه فإن تحریر الشكل الشعری من كل شرط سابق، أو قالب مسبق، یفترض دائما شكلا معینا لكل قصیدة، وأن الشكل لا یعنی الوزن والقافیة أو انعدامهما بالضرورة. إن الحداثة فی الشعر الحدیث تقتضی أكثر من وزن وقافیة، فالشكل الحدیث هو حركة القصیدة، وطریقة تكونها، ومراحل نموها،وعلاقة أجزائها ببعضها البعض، والأصوات الداخلیة فیها، والإیقاع الموسیقی فیها.

ولئن كانت الحداثة الشعریة تجدیدا فی الشكل والمضمون للقصیدة العربیة الحدیثة، فإنها لا یمكن أن تُـبنى فی فراغ تراثی، أو حضاری إنما تجمع بینهما، والفنان المبدع من استطاع حقا التوفیق بین العصر والتراث، وهی إشكالیة تباینت فیها مواقف الشعراء والنقاد، إذ یرى البعض من هؤلاء أن الحداثة ذات بعد شكلی ( شكلی لغوی ) وحسبْ، وقد لا یربط البعض بین موقف المبدع من اللغة، وبین موقفه من الحیاة، والبعض الآخر یعتبر الحداثة (موقفا) و(رؤیا) شمولیتین من الحیاة والزمن بأبعاده الثلاثة.

غیر أننا نعتقد أن الحداثة كلٌّ متكاملٌ..رؤیة شمولیة بُنیویة لقصیدة تشمل فی الأساس موقف الشاعر، ورؤیته الفلسفیة الفكریة من الوجود والمجتمع؛ ولذا فإن أی موقف لغوی شكلی،لا یعنی إطلاقا أن الشاعر أصبح حدیثا،ما لم یكن له موقف ورؤیا تتسمان بالحداثة، وبقدر ما تنطبق الحداثة فی الإبداع من حقائق اللغة، وحیویة الفكر، و تجاوز المبدع لأطر الزمان والمكان، والبیئات، والأفكار السائدة والمستقرة لكون الحداثة الإبداعیة متغیرةٌ باستمرار و إلا ما اعتبرت حداثة.
الحداثة لا تعنی الفوضى..

والحداثة الإیجابیة بالطبع تنْحو نحْو الخیر، وتُقاوم الشر فی كل صوره،ولا تعنی الحداثة أبدا الدخول فی فوضى التجریب والعمى عن رؤیة الواقع، أو الإعراض عن القیم والثوابت للأمة،إذ لابد من تحقیق الأصالة، والمسؤولیة التاریخیة، والاستفادة من التراث؛ لأن الرغبة الجامحة والعمیاء فی تحطیم القیم النبیلة تعسفٌ فی استعمال حقٍّ خاصٍ قد یؤدی بالغیر إلى الضرر.

والحداثة لا تعنی التجردَ من الغائیة، فكل إبداع یتم ویتشكل بمعزل عن الحیاة ذاتها مآله العدم،لأنه إبداع دون غایة، أو هدف إنسانی. ولن ینمو فی الآخرین أیضا بل یظل حبیس المغامرة الفردیة،لأن الإبداع لا یكون بهذه الصفة ما لم یعبر عن حالات، وأوضاع إنسانیة راصدا ومبرزا المتغیرات النوعیة التی تطرأ على الحضارة،بما یخدم التطور البشری، ویفتح آفاقا جدیدة یرتادها الآخرون من أجل حیاة أفضل.
الشاعر الفنّان الأصیل

إن التطلع إلى الحداثة فی شتى مجالات الأدب والفن أمرٌ مشروعٌ،إنما یقتضی انتقاء موضوعیا مرتبطا بقیم الأمة وتطلعاتها ومكانتها.والمرحوم الشاعر العراقی " عبد الوهاب البیاتی " یشترط فی الشاعر الأصیل عدة شروط یحددها كما یلی:

« الشاعر الأصیل یُولد من خلال المعاناة وینمو وینضج ببطء،معانقا الواقع والتحولات فی تاریخ أمته وشعبه،لا أن یستعیر أزیاءه وأدواته من تراث الأمم الأخرى ».

حقا إن الشاعر الأصیل هو الذی قلبه وعقله لتاریخه وثقافته وتراث أمته،حریصٌ دائما على تجاوز الذات،ساعٍ إلى الإضافة لهذا التراث وهو الذی یعتبر نفسه استمرارا لمجد الشعر العربی لا مهدما له،والشاعر الأصیل الذی یعتبر نفسه حداثویا لابد من أن یعترف بأن السابقین له مثّلوا هذه الحداثة بدورهم فی زمانهم،وسیصبح هو یوما كالسابقین،مما یتحتم علیه قراءة آثارهم وتمثّلها والتشبع بما تركوه من كنوز فكریة وأدبیة،ومعرفة الحد الذی وصلوا إلیه فی محاولاتهم الأدبیة،وإبداعاتهم الحداثویة،حتى لا یعتبر نفسه الرائد الأول فی التجدید،إو یبذل طاقات هدرا، غیر مستفید مما قام به غیره.

وكما یقول الناقد الأدبی جهاد فاضل:<< فالشعر ولید حمّى روحیة وحریق مشتعل فی النفس،فإذا لم یكن الشعر من وحی هذا الجحیم فعبثا یكتب صاحبها (النفس) نثرا وغیر نثر>>؛

والشاعر العظیم كالقدیس،كالبطل،كالعاشق،كالقمر لا یخفى وهو شاعر بعنایة الغیر أو بدون عنایتهم،بل إن زهده بالعلاقات العامة وإهماله لها یزیده شعرا ویزیده قدْرا والكلام بالطبع للناقد الأدبی السالف الذكر.

على أن الدكتور خلیل حاوی یلخص تلك الحمى الروحیة،وذلك الحریق المشتعل فی نفس الشاعر فیما یسمى بـ:الرؤیا الشعریة << الرؤیا الشعریة هی نوعٌ من المعرفة التی تتخطى نطاق العلم المحدود بالظاهر المحسوس،وتنافس الرؤیا الشعریةُ الفلسفةَ وتتغلب علیها فی مجال الكشف والخلق والبناء ,وهی سمة الشاعر الأصیل الذی لا تلمح وراء نتاجه شبحا من أشباح أسلافه أو معاصریه،وهی القدرة على صهرها بما یستمده من نتاج الآخرین وطبعه بنظرته الخاصة إلى الوجود وطریقته فی التعبیر >>.

هذه خصائص الشاعر الأصیل،الشاعر المجدد،المدرك لمفهوم الحداثة الحقة،وكل المبدعین والنقاد مُجْمِعون على أهمیة التجدید فی الفنون الأدبیة وعدم الوقوف فی وجه تیار الحداثة، فالدكتور"طه حسین" یرى أن النزعة نحو التجدید فی الأوزان والقوافی دعوةٌ غیر منكرة،بل إنها لیست دعوة جدیدة،فقد سبق إلى التجدید شعراء من العرب وشعراء من غیر العرب،وإنما الجدیر بالبحث فی الشعر الجدید هو البحث عن توافر الأسس التی یجب مراعاتها فی الفن الشعری،والخصائص التی ینبغی أن تتحقق فیه،ولا یمكن أن نعد هذا الجدید شعرا إلا إذا قام على تلك الأسس،وتوافرت فیه تلك الخصائص واستطاع أن یمتعنا وأن یؤثر فی نفوسنا الأثر الذی نعرفه لهذا الفن ونتوقعه منه ویحدد للشعر شروطا هذه بعض منها:

« فالشعر یجب أن یُبهِر النفوس والأذواق بما ینشئ فیه الخیال من الصور ویجب أن یُسحِر الآذان والنفوس معا بالألفاظ الجمیلة التی تمتاز أحیانا بالرصانة وتمتاز أحیانا أخرى بالرقة واللین وتمتاز كل حال بالامتزاج مع ما تؤدیه من الصور لتنشئ هذه الموسیقى الساحرة التی لا تنشأ من انسجام الألفاظ فحسب،ولا من التئام الصور نفسها، أو بینها وبین الألفاظ التی تجْلوها،بحیث لا یستطیع السمعُ أن ینبوَ عنها،ولا تستطیع النفس أن تمتنع علیها،ولا یستطیع الذوق إلا أن یذعن لها ویطمئن إلیها ویجد فیها من الراحة والبهجة ما یرضیه ».

لكن الخوف على الشعر العربی كله قدیمه وحدیثه من هؤلاء المبدعین للحداثة والعصرنة، الحداثة الرافضة لكل الأصول،حداثة بدون تاریخ،حداثة بدون خصوصیة،حداثة ترفض التراث، حداثة تتعالى عن الاعتراف بالشعراء السابقین قدیما وحدیثا،وهی ظاهرة سلبیة برزت فی كل البلاد العربیة وأصبحت تطلع علینا الصفحات الثقافیة كل یوم ببعض من هذا الشعر الذی یخلو من كل مواصفات الشعر الأصیل،حتى سارت ظاهرة ما لیس شعرا هو الشعر.

واستولت الطفیلیات على الجوهر،لتغطی الظاهرةُ الشعریةُ الحدیثةُ ما أسْموْه بتفجیر اللغة وكذا الركاكة والغموض وشعر اللاقول..

شعرٌ كهذا هو الذی أطفأ التوهج الشعری وأوقف تلك الجاذبیة السحریة لدى المبدع والمتلقی معا.یقول المرحوم الدكتور " زكی نجیب محمود" فی مجال رثائه لهذا الشعر الذی یفتقد كل تواصل بین الناس والخالی من الموقف الإنسانی،وعظمة الشعر القدیم::<< إنك تقرأ الشعر الجاهلی فتتابع أصحابه بالفهم والتقدیر،أما ما هو مصیر هذا الشعر الملغّز الرامز بعد أن تكون مرت علیه القرون والقرون، فلا أحد یدری منذ الآن، هل ستظل له قوته وعمق أثره حین لا یكون حول الناس ما یضیء لهم هذا اللغز وذلك الرمز؟…هذا هو السر الكبیر. »

ثم كیف یكون الشاعر من لا ینحنی متواضعا أمام الأسماء الكبیرة،ومن لا یشعر بالضآلة أمام العبقریات الشعریة الخالدة.. ویعترى الخوف الشاعر الكبیر" محمود درویش" وهو یرى هذا السیل الجارف من قصائد ادّعت وتدّعی الحداثة فی حین تحمل فی خبایاها مَعاول الهدم لأسس الشعر العربی،فیصرخ درویش بأعلى صوته:

« ما جرى للشعر العربی؟ إن سیلا جارفا من الصبیانیة یجتاح حیاتنا،ولا أحد یجرؤ على التساؤل:هل هذا شعر؟ نحن فی حاجة للدفاع لیس فقط عن قیمنا الشعریة بل عن سمعة الشعر الحدیث الذی انبثق من تلك القیم لیطورها لا لیكسرها،حتى شمل التكسیرُ بدافع الإدراك أو لجهل اللغة ذاتها،فكیف تطور الحداثةُ الشعرَ بلا لغة وهی حقل عمل الشاعر وأدواته،هل شرح لنا الذین لا یعرفون لغتهم ماذا یعنون بالمصطلح الدارج:تفجیر اللغة؟ »

ویعزو " محمود درویش " عزوف الناس عن الشعر ومقتهم للشعر الحدیث إلى هذا النوع من الإدعاء الشعری،ولأنه شاعرٌ أصیلٌ وعربیٌ یعنیه تاریخه وتراثه،ولا یعتبر التجدید والحداثة مرادفین للعدمیة وللثورة المضادة،فإنه یصرخ:

« قد نهدئ من روع الناس بالإشارة إلى أن تاریخ الشعر حافل بالتطاول والادعاء،لولا أن تراكم الركاكة واللاشیء وضیاع المفاهیم الخاصة بالشعر الحدیث قد أضاعت من الناس مفاتیح القراءة والتمییز،وبخاصة أن الشعر العربی الحدیث لم یحقق بعد شرعیته الشعبیة ».

وتؤید هذا الرأی فی سیاق آخر الشاعرة العراقیة " نازك الملائكة " فتقول:

« یعانی شعرنا المعاصر من مجموعة إشكالات منها التعمیة والتقلید وأخطاء الوزن وضعف اللغة واستعمال اللغة العامیة »

..وهی عیوب تشین القصیدة وتطفئ فیها توهجها الشعری الجذاب.فالشعر الأصیل تعبیر عن العاطفة وما تزخر به النفس البشریة من زخم الشعور،وما یؤثر فیها من صور الجمال وحقائق الحیاة،وهو من أجل ذلك متـأثر بالبیئة والعصر وبظروف الحیاة المتغیرة دوما فكم من قصیدة اكتسبت صفة الحداثة والتجدید فی كل عصر وقد مرَّ على قولها مئات السنین بل آلافها…كهذه الأبیات الخالدة لأبی الطیب المتنبئ… الزمن یمر وهی دائما متجددة فی بنائها ورؤاها وموقفها من الحیاة والناس:

إلى كـمْ ذا التخلـفُ والتـوانـی * وكـم هذا التمادی فی التمادی

وشغـل النفـس عن طلب المعالی * بیـع الشعـر فی سوق الكساد

فالموت أعذر لی والصبر أجمل بی * والبَـرُّ أوسع والدنیا لمَنْ غَـلَبَا

إنها رجفة الثورة وروح الكبریاء والعزیمة القویة لدحر الذل والهوان والدنیا لمن غلب،ألیس هذا هو منطق العصر الحاضر؟ ألیست هذه قاعدة العلاقات الدولیة حالیا؟ ألیست هی المعادلة المختلة التی تحكم علاقات الأقویاء بالضعفاء فی عالمنا الیوم؟

وهو صاحب الآمال العظام التی ما أحوجنا الیوم للعمل جمیعا قصد تحقیقها:

فـلا تحسبن المجد زقا وقـنینـة * فما المجد إلا السیف والفتكة البكر

وهو القائل:

فـلا مجد فی الدنیا لمن قل ماله * ولا مال فی الدنیا لمن قل مجـده

وهذا الشاعر السعودی "حمزة شحاته" یتغنى بالربیع الدائم الذی ألفه مجسدا فی فتاته الحسناء:

لا تقولی مضى الربیـع وولّـى * إنـه فیـك دائمــا یـتـجـدد

لم یـزل عطـره یفتح خدیْـك * ویُلقی عـلى الطبیعـة ظـلـلا

ورؤاه تبـدو بـعینیـك سحـرا * یستفـز الهوى خیـالا مـطـلا

وجمـالا شـاب الزمـانُ هیـاما * بهـواه ولـم یـزل فیـك طفلا

وهذا الشابی أبو القاسم یصیح فی الشباب صیحته المدویة التی یستنهض بها الهمم ویشد بها العزائم…صیحة قیلت منذ عشرات السنین وكأنها قیلت الیوم:

أُبـارك النـاس أهـل الطموح * ومَـنْ یستـلذ ركـوب الخطـر

وألـعـن من لا یمـاشی الزمان * ویقـنع بالعـیش عیـش الحجـر

هـو الكـون یحیـا بحب الحیاة * ویحـتقـر المیـت المنـدثــر

وهذا الشاعر المصری مرسی جمیل فی قصید عنوانه "إیقاعات" غنته المطربة فیروز:

لم لا أحـیا… وظـل الورد یحیا فی الشفـاه

ونـشـید البلبـل الشـادی حیـاة لـهـوای

لـم لا أحیـا وفـی قلـبی وفی عینی الحیاة

یا رفیقـی نحـن من نـور إلى نـور مضینا

ومع النجـم سـرینا ومـع الشمـس أتـینـا

أین ما یُـدعى ظـلامـا یا رفیق اللیل أینـا؟

إن نـور اللـه فی القـلــب وهـذا ما أراه

الشعر الأصیل شعرٌ یستوقفك فورا بنوع من الضراوة،بنوع من التحدی فلا تجد نفسك إلا مجیبا للتحدی ولكنه تحدٍ جمیل..وهذا الدكتور الشاعر أحمد الشرقاوی یرفع التحدی فی أبیات من قصید عنوانه، وهكذا نحن افترقنا:

لـم نكن نحفل بالجـرح وأسـوار الحصـار

ولـذا كـنـا نـقـاوم

وحـلـفـنـا أن نبیع الحزن فی توق اللقاءات الرحیبة

ونـغـنـی للأمـانـی

ورفـعـنـا بیْـرقا للـشمـس من وعْـد التـحـدی

ونـثـرنــا الحـلـم فـی الأرض الـخـصـبـة

وحـصـدنـا الـفـجـر فـی رجْـع الأغــانـی

الشاعر أحمد عبد المعطی حجازی عبر عن حزنه منذ عشرات السنین یبكی ما آلت إلیه علاقاتنا ببعضنا البعض، أفرادا وجماعات وشعوبا،حالنا یشهد على ذلك:

أحلم یا مدیـنتی فیك بـحب هـادئ

یـمـنحـنی الراحة والإیـمــان

أحلم یا مدینتی فیـك بـأن نبكی معا

إذا بـكـت عـیـنـان

بــأن أسـیـر ذات یـوم قـادم

تحـت نهـار یـسعـد الإنسـان

ألیست هذه المعادلة التی افتقدناها نحن فی بلادنا فی وضعنا الجدید المتسم بحریة التعبیر والسلوك الفردی والجماعی المتعارض مع النُظم الاجتماعیة والمُخِل بقیم الحضارة والتمدن،فالدیمقراطیة المطلقة ألقت بنا فی وحل: كل یغنی على لیلاه؟

إن التجدید الرائع الذی قام به الشعراء الرواد ومَنْ أتى بعدهم وبمقدرة فائقة خلّدهم، إنما لمْ یرافقه دائما تجدیدٌ لمضمون القصیدة العربیة عند غیرهم.فالشاعر العراقی بدر شاكر السیاب وهو من الرواد یقول:<< لقد ثرنا على القافیة والوزن التقلیدیین لأسباب مِن أهمها تحقیقُ وحدة القصیدة ومنحها وحدة عضویة >>.غیر أن هذا قد لا یتحقق دائما حتى للشعراء الكبار.لنقرأ هذه الأبیات من قصیدة " سوق القریة " للشاعر عبد الوهاب البیاتی:

الشـمـس، والحُمُـر الهـزیلـةُ والـذبـابُ

وحــذاء جـنـدی قـدیـم

وصیـاح دیـك فـرَّ من قفص،وقدیس صغیر

والعائدون من المدینة: یالها من وحش ضریر

وخوار أبقار، وبائعة الأساور والعطور

فأیة وحدة فی القصیدة، وحدة یُضحّى من أجلها بالوزن التقلیدی والقافیة وجزالة الأسلوب؟ أیة متعة هذا الهُراء اللفظی؟ وأی إیقاع شعری فی هذه الصور المتشرذمة؟

إن الحداثة بهذا الشكل وأْدٌ بشعٌ للفن واغتیالٌ مقزّز للشعر العربی، لكن عظمة الشاعر عبد الوهاب البیاتی وریادته فی حركة الشعر العربی المعاصر تُعفیه من هذه الكبوة.

أبیات أخرى لشاعر من تونس الشقیقة یلهث وراء الحداثة ولكن أیة حداثة؟

حدس أخضر..

یقتفی نصْب عینی

ولا ینتفی أبدا

كالدم المترقرق طوعا

برافد عمری

كوعد عنود

وهذه أبیات أخرى فی نفس السیاق لشاعر من وطننا الجزائر، من قصیدة له عنوانها:المدینة

حـجــرٌ فــوق الـمـدیـنـة

فـوقـــه نـأی .. وطـفـــل

یـتــدلّى بیـن نجمـات حزینـة.

كــل ما فی جـبـة الأرض قـتـیـل

رجل الشارع.. أبواب البیوت المستكینة.

وإذ نخلص من النماذج الشعریة التی استعرضناها،إلى أن الشاعر الأصیل بإمكانه أن یبدع،وأن یقدم للإنسانیة أروع القصائد الشعریة كیفما كان الشكل الذی یختاره،وأن یسمو بفنه إلى أعلى مراتب الخلود،وأن یرتفع بمتلقّی فنه إلى أعلى آفاق المتعة والتذوق الجمالی. وإذا كانت الحداثة فی الأدب وخصوصا فی الشعر لا تتوقف عند الظاهرة الإیقاعیة ومضمون القصیدة لكونه یرمز إلى غائیتها كموقف حیاتی ورؤیا للواقع،فإن المحور الأساسی للتعبیر عن ذلك هی اللغة.هذه الوسیلة السحریة لولوج العوالم المغلقة،لأنها الظاهرة الأولى فی كل عمل فنی یستخدم الكلمة أداة للتعبیر؛ فاللغة هی أول شیء یصادفنا،وهی النافذة التی من خلالها نطل على حدیقة الفن الشعری ومن خلالها تتفتح حواسنا على هذه الحدیقة.والشعر هو استكشاف دائم لعالم الكلمة،واكتشاف مستمر للوجود عن طریق الكلمة،ومن أجل ذلك كان الشعر فی رأی الدكتور عز الدین إسماعیل:<<هو الوسیلة الوحیدة لغنى اللغة العربیة وغنى الحیاة على السواء.والشعر الذی لا یحقق هذه الغایة الحیویة لا یمكن أن یسمى شعراً>>.

الحدیث عن ظاهرة العصرنة،وإشكالیة الحداثة فی الأدب و الفن وخصوصا فی الشعر العربی ممتعٌ وشیقٌ وذو شجون..موضوعٌ خصبٌ یبقى دائما مادة ثریة لجلْب اهتمام المفكرین والمبدعین،ومن لهم شغف بعالم الإبداع وسرّ الكلمة،

والخلاصة أن الشعر شعرٌ أیا كان شكله، ولا یمكن أن یكون الشعر جیدا لأنه جدید حر، أو شعرا سیئا لأنه قدیم…إن الشعر هو الشعر الجید بغض النظر عن الشكل الذی یقدم به، والأمر المهم هو إدراك الشاعر لوظیفة الشعر ومعرفته للإیقاع الشعری فی أی شكل والذی هو نبض التصور الإبداعی عند الشاعر.ومدى الحرارة،ومدى الصدق الفنی، ومدى الفیض الوجدانی الذی یعبر به كتابة،ومستوى الأداة التعبیریة القادرة على أن تُخرج هذا الفیض الوجدانی بصورة فنیة جمیلة عالیة المستوى سواء كان موزونا أم غیر موزون، أم غیر مقفى.

الكلمة إن توفرت لها شروط الخلود،وكتب لها القدر أن تعیش تصبح أبدیة، وتصیر ملكا للتاریخ ومكسبا للإنسانیة،وبقدر ما نستوعب مفهوم الإخلاص لهذه الإنسانیة، نقترب بالفعل بهذا الكنز الثمین منها،وهو ما تدعونا إلیه روح الإبداع لكی نستلهم منه مزیدا من التحرر والتفتح والكشف لخبایا الحیاة.. والشعر فن إنسانی رائد.
ملاحظة

الإحالات

ـ الدكتور عز الدین اسماعیل. الشعر العربی المعاصر.ط2 /1972 دار العودة ودار الثقافة.بیروت.

ـ أ.جهاد فاضل. قضایا الشعر الحدیث.دار الشروق /بیروت.

ـ الدكتور بدوی طبانة. التیارات المعاصرة فی النقد الأدبی. دار الثقافة /بیروت 1985

ـ مجلة الفكر التونسیة – العدد العاشر – جویلیة 1984.


مطالب مشابه :


إشكالیة الحداثة فی القصیدة العربیة الحدیثة

تحمیل کتب و برامج الشعور،وما یؤثر فیها من صور الجمال وحقائق الحیاة،وهو من نجمـات حزینـة.




إشكالیة الحداثة فی القصیدة العربیة الحدیثة

تحمیل کتب و برامج الشعور،وما یؤثر فیها من صور الجمال وحقائق الحیاة،وهو من نجمـات حزینـة.




برچسب :